الحقيقة الغائبة حول مشروعات قوانين الصحافة والإعلام

الحقيقة الغائبة حول مشروعات قوانين الصحافة والإعلام

Spread the love

تعلمت فى بداية مشوارى الصحفى أن أى قصة لابد لها من وجهين على الأقل. وتعلمت أيضاً أن الانطباعات المسبقة غالباً تكون خاطئة. وتعلمت أن صاحب القلم هو إنسان يصيب ويخطئ وأنه ليس معصوماً من الخطأ.. وتعلمت كذلك أن الغرور المهنى يعنى قمة الفشل، فمهما كنت متفوقاً فمن المؤكد أن هناك مَن يفوقك.

وعلى مدى أكثر من 25 عاماً متصلة من العمل الصحفى، قبل أن أنتقل إلى العمل الإدارى، كنت أشهد أن هذه الدروس الأساسية للصحافة والإعلام تتبدد، وأن المهنة أصبحت تفتقد المعلم.. وأن المسؤولين عن الحفاظ على المهنة تخلوا عن مسؤولياتهم وتفرغوا لخلافات سياسية وانتخابية لا علاقة لها بالمهنة، بل لا أبالغ إن قلت إنها جاءت على حساب المهنة.. ففقدت المهنة جانباً كبيراً من احترامها فى المجتمع، والذى ساهم فى ذلك أن التطور المذهل فى عالم الصحافة لم يواكبه أى تطور فى التشريعات الحاكمة لهذه المهنة.
وأصبح كل شاب يتخرج فى الجامعة- وربما من غير جامعة- يعمل صحفياً، وأصبح الإعلام مفتوحاً كساحة صراع وصراخ، بل إن هناك صحفا صغيرة نشأت فى شقق مؤجرة تستعين بشباب غير مؤهل استغلالاً لحاجتهم للعمل، وتحت زعم أنهم سيحصلون على كارنيه نقابة الصحفيين!! وأصبح السب والقذف حرية رأى وتعبير، وتم فتح الشاشات وصفحات الصحف لتصفية حسابات بين أشخاص.
ولكن الكل نسى أن مهنة الإعلام ليست سيفاً مسلطاً على رقاب العباد، ولكنها خدمة ينبغى تقديمها للمجتمع فى أفضل صورها.. فالإعلام حق للمجتمع.. وحرية الرأى والتعبير حق للمجتمع فى المقام الأول.. لأنه صاحب الحق فى أن يعلم ويعرف.. والإعلامى أو الصحفى مهمته الحصول على المعلومة الدقيقة وتقديمها لهذا المجتمع فى أسرع وقت ممكن.. فإن جاءت المعلومة خاطئة أو ناقصة عمداً أو إهمالاً، فإنه هنا يكون قد خان أصول مهنته.. أما أن يكون الصحفى والإعلامى سيداً على المجتمع فهذا بالتأكيد منطق معكوس، ساهم فى ترسيخه التقاعس عن تشريع القوانين المنظمة.
يريدون تعطيلها وإثارة الأمر حولها كسباً لوقت أطول فى مهمتهم المؤقتة أو كسباً لأصوات انتخابية فى أى انتخابات قادمة.. فهذه التشريعات هى ضمان لحق المجتمع فى إعلام حر نزيه وشريف من جهة، وضمان لحق الصحفى والإعلامى فى ممارسة عمله بحرية تامة. وأؤكد أننا بشر نخطئ ونصيب، فإن كنا قد اجتهدنا فربما تكون هناك أخطاء لا نراها الآن.. ولكن المهم أن ينتهى هذا الوضع الفوضوى فى المناخ الإعلامى والصحفى.. وإذا احتاج الأمر لتعديل فيما بعد، فليس هناك ما يمنع. وقد تعجبت كثيراً من كاتب كبير يقول إننا لن نرضى إلا بالمشروع الموحد الذى أعددناه.. وأقول لهذا الكاتب الكبير إن الأمر الآن أصبح بيد البرلمان، وهو صاحب الحق فى التشريع.. فما الضرر الذى أصابك من الفصل؟! هذه القوانين تحتاج المساندة لأنها تصب فى صالح المجتمع، وفى صالح الإعلام، وفى صالح الصحافة.. أما تعطيلها فيصب فى مصلحة قلة معروفة ستخرج من المشهد الصاخب الحالى إن ظهرت هذه القوانين، وأؤكد أيضاً أننى وزملائى فى لجنة الإعلام معظمنا من الصحفيين.
المهم أن المجتمع- صاحب المصلحة- أصبح يضيق بهذا الإعلام وبهذه الصحافة، وانصرف عنهما، حتى جاء دستور 2014، وانتهى لضرورة إنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام، فى 3 مواد متتالية، هى 211 و212 و213. وأصبح سَنّ هذه القوانين التزاما دستوريا لا يمكن التباطؤ فيه. ولكن هناك 4 مواد دستورية أخرى، هى 65 و70 و71 و72، تضمن حرية الرأى والتعبير واستقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام. وهى مواد لا يمكن إغفالها عند وضع هذه المجالس والهيئات. وبعد 10 شهور من وضع الدستور، قام المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء آنذاك، بتشكيل لجنة، برئاسة وزير العدل، المستشار محفوظ صابر، ووزير العدالة الانتقالية، المستشار إبراهيم الهنيدى، وثلاثة من كبار الكتاب، هم: مكرم محمد أحمد، وصلاح منتصر، وفاروق جويدة، وعصام الأمير، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، والمهندس محمد الأمين، ممثلاً للقطاع الخاص فى الإعلام، والدكتور صفوت العالِم، أستاذ الإعلام، وكاتب هذه السطور، واستمرت اللجنة فى عملها لمدة 4 شهور مع قسم التشريع.
انتهت اللجنة لإعداد 3 مشروعات قوانين، أحدها للمجلس الأعلى للإعلام، والثانى للهيئة الوطنية للصحافة، والثالث للهيئة الوطنية للإعلام.. وثارت قيادات نقابة الصحفيين وقتها، وطلبت أن تشكل هى لجنة سُميت «اللجنة الوطنية» لإعداد هذه المشروعات، ووافق المهندس «محلب»، واستمرت شهورا تسعة تعمل، وانتهت لمشروع اسمه «القانون الموحد»، يضم أكثر من 200 مادة.. ثم جاءت حكومة المهندس شريف إسماعيل، الذى أعاد الكَرَّة مرة أخرى، تلبية لطلب نفس اللجنة الوطنية، وعملت لشهور أخرى منذ نهاية 2015 مع وزير العدل، المستشار أحمد الزند، ووزير الشؤون البرلمانية، المستشار مجدى العجاتى، ووزير التخطيط، الدكتور أشرف العربى، ثم تغير وزير العدل.. وأخيراً- ومنذ شهور قليلة- قدمت الحكومة هذا المشروع المتعثر إلى مجلس الدولة لأخذ الرأى عليه. ولم تُرِد الحكومة أن تغير كلمة مما كتبته اللجنة الوطنية، التى تضم فى عضويتها أعضاء من المجلس الأعلى للصحافة «المؤقت» ونقابة الصحفيين.
وظل الأمر محل بحث ودراسة حتى انتهى مجلس الدولة إلى التوصية بضرورة فصل التشريع المُنشئ للمجلس الأعلى والهيئتين الوطنيتين عن التشريع المنظم للمهنة.
نجد أن السطر الأخير من المادة 211 الخاصة بالمجلس الأعلى للإعلام يقضى بأخذ رأى هذا «المجلس» فى مشروعات القوانين واللوائح المتعلقة بمجال عمله، وكذلك الأمر فى الهيئتين الوطنيتين، وهو ما يؤكد ضرورة وجود المجلس الأعلى والهيئتين أولاً، ثم يؤخذ الرأى فى القوانين الخاصة بها. وقامت الحكومة بتنفيذ التوصية، وفصلت المواد المُنشئة للمجلس والهيئتين، ووضعتها فى قانون سمته «التنظيم المؤسسى»، ثم تركت باقى المواد فى القانون الموحد، وسُميت التشريعات الصحفية والإعلامية، وهى نفس المواد التى صاغتها اللجنة الوطنية، ولكن فقط تم الفصل بناء على توصية مجلس الدولة.
وجاء القانون لمجلس النواب منذ 10 أيام، ثم أحاله لرئيس لجنة الإعلام والثقافة والآثار، التى أشرف برئاستها، وطلبت من الأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة، الكاتب الصحفى صلاح عيسى، أن يحضر للاستماع لوجهة نظره، واتفق معى على الحضور، صباح اليوم التالى. واعتذر عن عدم الحضور الكاتب الصحفى يحيى قلاش، نقيب الصحفيين، وحضر الباقون الذين تمت دعوتهم.. وفوجئت فى اليوم التالى ببيان للكاتب الصحفى صلاح عيسى يعلن فيه أنه لن يأتى!! وهذا لم يكن مريحاً بأى حال من الأحوال.. فهناك رغبة من التيار المتحكم فى الصحافة حالياً أن يعطل المناقشة.
ولماذا التعطيل ممن قاموا بصياغة القانون؟! أما الادعاء بأن القانون لم يرسل إليهم، فالقانون تمت طباعته وتصويره لكل مَن حضروا المناقشة وليس قبل ذلك، فلم نكن نناقش مشروعاً سرياً!! فما الأزمة؟! هل تريدون أن يظل الوضع على ما هو عليه؟! هل يستمر التدهور المهنى أكثر من ذلك؟! وهل هذه الأسماء فقط هم أصحاب الحق فى المنع والمنح؟!
الحقيقة هنا أن المبررات التى سيقت فى هذه الأزمة لم تكن مقنعة لأى أحد، واستمرت المناقشات فى اللجنة، مع استمرار الدعوة للكل لكى يحضروا. والحقيقة أن المعترضين صاغوا القوانين بحرفية عالية، لم ترهقنا فى مناقشتها إلا فى بعض الأمور الصغيرة، التى لا تغير من المحتوى.. فمثلاً المادة التى تقضى بحبس عضو المجلس الأعلى أو الهيئة الوطنية للصحافة والإعلام، وقد يكون صحفياً أو إعلامياً، إذا أخل باستقلالية الجهة التى يعمل بها تم حذفها تماماً، وحرصنا على ألا ترد كلمة حبس فى هذا القانون على الإطلاق، والذى ساعدنا أنه ليس هناك معنى واضح لتهمة المساس باستقلالية الجهة التى يعمل بها.
ولأننا نعمل فى النور، وتأكيداً على أننا لم نسلق المشروع، وجهت اللجنة الدعوة لكافة الصحفيين والإعلاميين إلى مجلس النواب، وقمنا بتوزيع المشروع عليهم مطبوعاً، حتى قبل إخضاعه للتصحيح اللغوى، للتأكد من أن هذا المشروع هو نفسه المشروع الذى قامت اللجنة الوطنية بإعداده. وهى سابقة لم تحدث من قبل داخل البرلمان طوال تاريخه. وقد شرحت بالتفصيل أن المخاوف من تأخير القانون الخاص بالتشريعات المنظمة لمهنة الصحافة والإعلام وردت بالفعل إلى اللجنة، وأنها ستناقش فور الانتهاء من القانون التنظيمى المؤسِّس المُنشئ للهيئات الإعلامية، بل إننا أضفنا نصاً يقضى بإلزام هذه الهيئات بإبداء رأيها خلال شهر من أول انعقاد لها فى المشروع الخاص بتنظيم المهنة نفسه، حتى نضمن مناقشتها والانتهاء منها فى أسرع وقت ممكن. وأخيراً فإن هذه التشريعات لاقت قبولاً كبيراً فى أوساط الإعلاميين والصحفيين، وليس هناك أى مبرر للانحياز إلى جانب من الإعلام، والمقاومة الرهيبة لمحاولة سَنّ هذه القوانين.. وكلما اقتربت الدولة من هذه القوانين تصرخ الجماعة الصحفية- مع اعتراضى على كلمة الجماعة- وتخلط بين تنظيم الصحافة والإعلام، وحرية الرأى والتعبير