حاسبوا من قتلوا الانتماء عمداً

حاسبوا من قتلوا الانتماء عمداً

Spread the love

طبعا لا شيء يبرر خيانة الوطن.. ولكن هذه قاعدة نظرية لا يمكن الاعتماد عليها فى بيئة صالحة لنمو كل السلبيات والنقائص وتنال من انتماء المواطن لوطنه.

وقضية «طارق» المتهم بالتجسس مؤخرا كشفت أنه كان ملاحقا بواسطة جهاز المخابرات المصرية منذ بداية خيانته، وهذا هو الجانب الإيجابى الوحيد فى القضية.. ولكن التفاصيل خطيرة، فمن المصريين الآن شاب يبادر هو بنفسه بإرسال رسالة إلكترونية إلى جهاز المخابرات الإسرائيلى عارضا خدماته عليهم، وهذه الخدمات هى بيع وطنه لهم.. وإسرائيل لم تمانع، وقد سبق ذلك بالفعل دراسة لحالته، وتبين أنه يحتاج المال، فأرسلت من يتولى تدريبه وتجنيده ولوحت له بالمال، فلم يتردد، وبدأ فى تنفيذ ما يطلب منه مقابل مبالغ زهيدة.

وحينما بدأت وسائل الإعلام تتعامل مع الخبر، تبين أن أسرته تعاني فقرا مدقعا.. وهذا هو للأسف حال الآلاف من الأسر المصرية، وهناك عدة آلاف أخرى من الأسر المتوسطة تتحول تدريجيا للحالة التى بدت عليها أسرة طارق وربما أسوأ..

وهذا الفقر الشديد الذى يقف على الجانب الآخر منه فى مصر ثراء فاحش، يجعل الشباب فى مقتبل العمر يحلمون بالتحول من الفقر للغنى.. فإذا ضربه اليأس وشعر بالظلم وغياب العدالة، قد يندفع للهجرة بطريق غير شرعى عبر البحر المتوسط فى رحلة البحث عن العمل، التى تنتهى ببعضهم فى قاع البحر، وقد يتحول البعض منهم إلى طرق غير شريفة، وهذه مجالها واسع، أقلها المخدرات وأخطرها خيانة الوطن، وبيعه للعدو الإسرائيلى.

وللأسف إن مجتمعا مثلنا الآن، أصبحنا نفتقد للقيم والثوابت الرئيسية، التى تربط الوطن ببعضه وتحفظ له تماسكه.. وغالبية المصريين يدركون أن إسرائيل عدو وليست صديقاً، وأن السلام الموقع معها هو مجرد مرحلة من مراحل الصراع، وهى نفسها تدرك ذلك، فلا تتوانى عن الإضرار بمصر بدليل شبكات التجسس المتتالية، التى تكتشف من آن لآخر، وبدليل تصريحات رئيس جهاز الموساد الإسرائيلى السابق، الذى أعلن بوضوح أن المخابرات الإسرائيلية سعت لضرب الوحدة الوطنية فى مصر، وعمدت لإثارة الفتنة الطائفية، واعترافه بأن هناك شبكات تجسس إسرائيلية تنتشر فى مصر..

ولا مجال لمواجهة الخطر الإسرائيلى الدائم علينا إلا بغرس القيم الوطنية والحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه، وتأكيد الحقائق حول إسرائيل فى مناهج التعليم للأطفال فى السن الصغيرة ليدركوا أن إسرائيل عدو وليست صديقاً، وأن المصلحة هى التى اقتضت توقيع اتفاقية السلام، وأن إسرائيل لا تحفظ عهدا، وأنها ستنقض على مصر فور أن تشعر بضعفها وتراخيها وغفلتها.

والأجيال الجديدة بكل أسف لا تدرك هذه الحقائق جيدا، وترى أن القيادات المصرية تستقبل قيادات إسرائيلية فى نشرات الأخبار، ولم يعد لديهم إدراك كامل بأن إسرائيل نشأت على أرض مغتصبة، وأنها احتلت أرضا فى مصر، وأن حروبا عدة دارت بين مصر وإسرائيل انتهت بانتصارنا عليها فى 1973، الذى كان سببا مباشرا فى قبول إسرائيل التوقيع على اتفاقية السلام وإعادة سيناء.. بدليل أن شبابا مصريين أصبحوا يعملون داخل إسرائيل، ولا يجدون فى ذلك أى خجل، بل إن منهم من يسعى للحصول على الجنسية الإسرائيلية.

والأخطر من هذا وذاك هو تلك السياسات الحكومية المصرية، التى ضربت انتماء المصريين فى مقتل بسياسات خاطئة وعناد لا حدود له.. فقد رسخت هذه السياسات الفقر عند الفقراء، ودعمت ثروات الأغنياء، وأقامت السدود بين الطبقات..

فوزارة الإسكان على سبيل المثال لا الحصر تخلت عن دورها فى توفير سكن آدمى للفقراء ومتوسطى الحال، واستهدفت سياساتها خلال السنوات الأخيرة رفع أسعار الأراضى لأقصى سعر ممكن لجمع حصيلة مالية، وهو ما أدى لارتفاع أسعار السكن فى كل مصر بشكل غير مسبوق، وهو ارتفاع يشعر به الفقير ويتأثر به جدا..

وحينما ترد الوزارة تقول إن هذا هو سعر السوق الفعلى، وإن السوق السوداء تبيع بسعر أكبر، وهذا تأكيد من الوزارة أنها تخلت عن دورها، الذى وُجِدْت من أجله، فالحكومة عليها أن تحارب السوق السوداء ولا تجرى وراءها.. وخطورة هذا المثال أن الشاب الفقير حينما يشعر بالعجز حتى عن الحصول على مسكن آدمى داخل وطنه، سوف يكره الوطن، وتزداد الكراهية لو استمر العجز لسنوات وسنوات، وهنا نكون قد خلقنا بيئة ملائمة للخيانة.

مرة أخرى.. لا شيء يبرر خيانة الوطن.. ولكن من الصعب أن نقتل الانتماء عند الملايين قتلا عمدا، ونشعرهم بالظلم فى كل موقف، ثم نطالبهم باحترام الوطن والعمل من أجله.. فدون الانتماء تصبح المعانى الوطنية مجرد كلمات جوفاء نظرية يستحيل تطبيقها عمليا على أرض الواقع.

حاسبوا طارق على خيانته، فخيانة الوطن جرم لا يغتفر.. ولكن حاسبوا معه كل مسؤول خان الوطن بسياسات تقتل الانتماء، وتدفع المواطن للهروب يأساً من وطنه.