19 يونيو حصاد سياسة اللاقرار
لم تأت أزمات المحامين والقضاة والأقباط ومياه النيل وغيرها من فراغ.. لابد أن نفهم أسباب كل هذه المصائب التى تحل علينا الواحدة تلو الأخرى.. ولابد أن نتعرف على مواطن الخلل، ولابد أن يحدث تغيير منهجى فى نمط إدارة الأمور وقيادة الدولة.
سياسة مصر عبر 30 عاما كانت تعمد إلى إخماد الحرائق دون محاولة النظر للأسباب التي أدت – وتؤدي – لاشتعالها.. فإذا نشأ خلاف بين مسلم ومسيحى مثلا تنصب الجهود على التهدئة والتمويه والإخفاء لحصر الأزمة، وغالبا يتم تعطيل القانون واللجوء لحلول توفيقية.. ويظن القائمون على الأمر أنه انتهى، بينما الأزمة فى واقع الأمر قد تأجلت وتكون جاهزة للانفجار فى أقرب فرصة قادمة.. وهذا المنهج نفسه يُتبع فى أى مشكلة داخلية أو خارجية..
ففي ملف مياه النيل الذى يعد أولوية من أولويات الأمن القومي المصري، لم يلتفت أحد للتحذيرات التي يطلقها الخبراء وأصحاب العقول والآراء لعقود طويلة، وكانت الحكومات مطمئنة إلى أن النيل يجري أمامها.. وحينما بدأ الكلام عن رغبة دول المنابع فى إعادة توزيع الحصص، اعتمدت الحكومة فى موقفها على ضرورة الحفاظ على الحقوق التاريخية فى مياه النيل..
بينما الطبيعى أن مصر كان يجب عليها هى أن تبادر بالمطالبة بتغيير حصص المياه لزيادة حصتها لأنها لم تعد كافية.. وكان على الحكومة أن تخطط لذلك بالبدء فى تعميق شبكة المصالح مع دول المنبع تمهيدا للمطالبة بتعديل الحصص لصالحها.. إلا أن حكوماتنا عديمة الخيال وفاقدة الرؤية كانت مستكينة لا تفكر ولا تستجيب لتفكير الآخرين، وكانت النتيجة أنها أصبحت تتحرك لرد أفعال الآخرين.
كل هذه الأزمات تعكس أن مصر تعتمد على سياسة «إكفى على الخبر ماجور».. وهى سياسة لا تصلح لتحقيق أى أهداف استراتيجية أو تكتيكية.. ولا توجد دولة فى العالم انطلقت دون أن تحدد أهدافها وترسم سياساتها لتحقيق هذه الأهداف فى مدى زمنى مناسب..
وهذا أمر يستوجب رؤية ثاقبة وإرادة قوية وإدارة علمية حازمة.. ولابد من آلية محاسبة ومتابعة للحكومة.. فالنجاح يقاس بقدر ما يتحقق من أهداف.. وانطلاق مصر ليس صعبا بالدرجة التى تصورها لنا بعض القيادات لتبرير الفشل.. وليس صحيحا أن الأصابع الخارجية تعبث فى مقدراتنا وتعوق حركتنا.. فكل الدول التى حققت نهضة كانت تعانى ظروفا أسوأ من ظروفنا بكثير..
ألمانيا مثلا خرجت مكروهة من العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها تصالحت مع نفسها ومع الآخرين، وحددت أهدافها وحققتها خلال 10 سنوات فأصبحت واحدة من أهم وأقوى اقتصاديات العالم وأكثرها تفوقا واحتراما، وأهل ألمانيا غاضبون من حكومتهم الحالية لأن نسبة التضخم هذا العام لديها بلغت 1% فقط، لأن الإخفاق مرفوض تحت أى ظرف!! واليابان أيضا خرجت من الحرب نفسها كسيحة، ولكنها تمكنت من تحقيق نهضة مذهلة خلال الفترة نفسها.. وبالتأكيد كانت هناك صعوبات، ولكن الإرادة كانت أقوى، والأهداف بالغة الوضوح عند الشعب والحكومة على السواء.
أما فى مصر فقد اعتبرنا حرب 1973 آخر الحروب منذ 37 عاما، واستعدنا أرض سيناء كاملة، ونعيش فى سلام رسمي موقع تشهد عليه أطراف دولية.. ورغم ذلك لا نعرف أهدافنا التى نعيش لتحقيقها.. فقد اعتبرت قياداتنا أن مواجهة الأزمات بالصمت والهدوء منتهى الحكمة والرشد، وأنها كانت سبب الاستقرار الذي نشهده.. والواقع أن ما يحدث لا يعبر عن أي استقرار..
فلم يتم حل أي مشكلة حلا جذريا.. فلم يتم حل مشكلة الإسكان ولكنها تعقدت، ولم يتم حل مشكلة المرور ولكنها تعقدت، ولم يتم حل مشاكل التعليم ولكنها تعقدت، ولم يتم حل مشاكل الصحة ولكنها تعقدت.. ولا يمكن لدولة أن تؤثر فى محيطها الإقليمي أو الدولي ما لم تنهض وتتقدم وتقوى اقتصاديا.. ففقدنا دورنا الطبيعي فى المنطقة أيضا، وانخفض تأثيرنا حتى فى القضايا التي كان لنا الدور الرئيسي فيها مثل القضية الفلسطينية..
وأصبحنا ننزعج من تنامى الدور التركى الذى يحل محلنا، ونسينا أننا الذين خرجنا بأنفسنا من الملعب بسياسات تخلو من الهدف وتتسم بالاستكانة..وبينما كنا نعتبر هذا الفراغ حكمة واتزانا.. كان الآخرون يملأون هذا الفراغ مكاننا.
سياسة «المشى جنب الحيط» لا تؤدى إلى أى نتائج.. والإدارة الجيدة هى الإدارة بالأهداف.. وهى الإدارة القادرة على اتخاذ القرار العلمى المدروس المناسب لتحقيق الهدف المطلوب فى الوقت المناسب.. أما مبدأ اللاقرار فى كل شىء فهو إهدار للموارد والوقت، وهو جريمة فى حق الأجيال القادمة.
يجب أن نستفيد جيدا من كل هذه المصائب والكوارث والأزمات المتتالية.. فكلها تراكمات لهذه السياسة.. وهي تؤدي للفوضى لا إلى الاستقرار.. يجب أن نستيقظ ونتغير وبسرعة.