30 أكتوبر حكم براءة يدين الحكومة
تمتلك مصر أكبر ترسانة قانونية فى العالم، ولكنها أيضا الأقل تطبيقا لهذه القوانين.. فمعظمها يصدر برغبة حكومية ولأهداف محددة وموضوعية.. وهيبة الدولة- أى دولة- تعتمد على التزامها بتطبيق القانون على الجميع.
ومنذ أيام أصدرت محكمة جنايات الإسماعيلية حكما خطيرا فى قضية أطلق عليها إعلاميا «قضية بيع أراضى سيناء للأجانب».. برأ الحكم 9 متهمين من أصل 11 متهما، وفى أسباب الحكم أكدت المحكمة أنه لا يوجد نص قانونى يجرم مخالفة حظر بيع الأراضي للأجانب، فالقانون 230 لسنة 1994 فى شأن تمليك العقارات للأجانب ليس فيه نص لتجريم بيع الأراضى للأجانب، والقاعدة القانونية أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.. وناشد القاضى السلطة التشريعية التدخل بإصدار تشريع لحماية أرض الشهداء من الغزاة الجدد حسب النص المنشور بالصحف.. فبينما تبرأ المتهمون من التهم المنسوبة إليهم، تبين أن الجانى الحقيقى هو الحكومة التي تسيبت فى أمر ملتصق بالأمن القومى، واكتفت بإصدار قرارات من الجهات الإدارية ليست لها قوة القانون، وكذلك مجلس الشعب الذي أخرج القوانين على عجل فلم يكن كافيا للردع.
وسيناء لها خصوصية بالنسبة لمصر.. فقد احتلتها إسرائيل منذ 1967، وخاضت مصر من أجلها حرب 1973 التى مازلنا نحتفل بذكراها هذه الأيام ومازلنا نتحدث بفخر عن شهداء ضحوا بأرواحهم، ومصابين فقدوا دماءهم وأجزاء من أجسادهم كانوا جميعا سببا فى استعادة هذه الأرض المسلوبة.. فلولا انتصار أكتوبر لما تمكن الرئيس الراحل أنور السادات من توقيع اتفاق السلام، الذى بمقتضاه اضطرت إسرائيل المهزومة لإعادة الأرض لمصر، وبعدها ظلت مصر تناضل سياسيا وقانونيا ودبلوماسيا 8 سنوات أخرى لاستعادة طابا.
وأى طفل صغير يدرك جيدا أن إسرائيل خرجت من سيناء وكلها أمل أن تعود مرة أخرى إما سلما أو حربا.. ويكفى الإشارة إلى أن مساحة سيناء توازى 3 أضعاف مساحة إسرائيل حاليا.. بل إن مناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل وقت توقيع اتفاقية السلام قال عند انسحاب إسرائيل منها إنه ليس من السهل على إسرائيل أن تنسحب من ثلثي أراضيها.. وأنا شخصيا لي علاقة شخصية بسيناء، وأتردد عليها باستمرار منذ استعادتها، وأتابع ما يحدث على أرضها، وخلال جولاتي هناك رصدت سيدات إسرائيليات يحاولن الزواج من أي مصري مقيم هناك للتمتع بالإقامة فيها.. ونشرت قصة سيدة إسرائيلية اسمها راشيل في التسعينيات تزوجت من سباك ثم طبيب ثم شاب ثالث يمتلك مركز غطس بسيطا.. والحقيقة أن بدو سيناء كانوا يرفضون الزواج من إسرائيليات، وكانت كل حالات الزواج تتم مع شباب قادمين من الوادي.. وكانت هذه الزيجات تتم بواسطة محام مصري مقيم فى دهب وقتذاك .. وراشيل كانت نموذجا لإسرائيليات أخريات فى مدن خليج العقبة، وابن هذا الزواج سيكون مصريا إسرائيليا، يرث من والده ممتلكاته فى سيناء، ويرث من أمه يهوديتها وإسرائيليتها.. بمرور الوقت ينشأ أمر واقع جديد .
ورغم أن أجهزة الأمن هناك كانت ترصد مثل هذه الوقائع، وتحاول أن تشرح للشاب المصرى خطورة الإنجاب من هذه السيدة وغيرها، وكان ذلك سببا فى فشلهن، إلا أن الغريب أن الحكومة لم ترتكز لهذه الوقائع التى نشرتها، والتى نشرها غيرى بعد ذلك فى عدة صحف، فلم تفكر فى سن تشريع متكامل ومتماسك يحمي الأمن القومي المصري.. فسيناء بالنسبة لمصر قضية أمن قومى حيث لاتزال الأطماع الإسرائيلية واضحة فيها رغم السلام الرسمى.
والتشريع المطلوب هنا يجب أن يحظر البيع للأجانب نهائيا، فأي أجنبي يشتري الأرض فى سيناء من مواطن مصرى، لن يكون لديه أى مانع من بيع هذه الأرض مرة أخرى لشخص إسرائيلى، وهنا ندخل في حلقة مفرغة، وقد يتم اللجوء لتحكيم دولي ينتهي بدفع مئات الملايين تعويضا لهذا الإسرائيلى أو لهذا الأجنبي.
وأكثر ما يزعجني في لغة بعض وزراء المجموعة الاقتصادية هو قول أن من يشترى الأرض لن يأخذها معه لبلده.. وفى هذا استهانة وجهل بطبيعة الأمور، وخسائر مصر ملايين كثيرة فى قضايا تحكيم سابقة كانت بسبب هذا المنطق.
إدانة محكمة جنايات الإسماعيلية الضمنية للحكومة يجب أن تلفت انتباه أى مسؤول لديه بعض الإحساس بهذا المكان وأهميته الاستراتيجية والتضحيات التي بذلت من أجل استعادته كى يتحرك من أجل سن تشريع محدد المعالم وواضح المواد ليعرف كل شخص حقوقه، وتتم ترجمته فى عقود البيع للمستثمرين فى سيناء.. وهذا الحكم ألقى بالمسؤولية بوضوح على عاتق الحكومة، ونبهها بشكل واضح إلى أن القوانين العرجاء والقرارات الإدارية لا تكفى لحماية أرض سيناء.. وحيثيات الحكم لم تكن سرية، وتستطيع الحكومة الاطلاع عليها ولو من الصحف.. فهل تستجيب حماية لأرض سيناء وحماية للأمن القومى المصرى؟ ومتى؟.