08 مارس دماء رخيصة
السبت 08-03-2008
طفلة مصرية عمرها 14 عاما، اسمها سماح نايف مسلم اغتالتها رصاصة إسرائيلية غادرة أثناء تواجدها أمام منزلها داخل الأراضي المصرية، وبالتحديد في قرية كرم أبو مصلح جنوب رفح المصرية.. وابن عم الفتاة مات بنفس الطريقة وفي نفس المكان قبلها بأسابيع.
القصة متكررة بسيناريوهات مختلفة، ولكن رد الفعل المصري لايتغير.. فمنذ شهور قتل جنود إسرائيليون جنديين مصريين علي الحدود، وقبلهما جندي ثالث.. والرصاص الإسرائيلي ينال من مصريين كثيرين علي الحدود مستغلا الصمت الرسمي المصري.. فخلال عامي 2001 و2002 فقط، قتل الرصاص الإسرائيلي مصريين اثنين، وأصاب 12 مواطنا آخرين بإصابات متفاوتة داخل رفح المصرية.. ولكن يبدو أن دماء المصريين سهلة ورخيصة لدرجة لا تستحق حتي مجرد الاستنكار.
البعض يري أن إسرائيل تحاول استفزازنا، ولكننا طبعا فوق الاستفزاز.. والمسؤولون العقلاء الذين لايستفزهم مقتل المصريين ينسون – أو يتناسون – أن الاستفزاز يكون بالتصريحات أو بالإعلام أو بأي من الأفعال البسيطة، أما القتل وإسالة الدماء أو حتي إطلاق أعيرة نارية في الهواء تجاه الأراضي المصرية، فهي أعمال عدائية صريحة تتجاوز الاستفزاز بمراحل،
وتستوجب الرد.. فالمادة الثالثة «فقرة-2» من الاتفاق الرئيسي لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية تقضي بتعهد كل طرف من الطرفين بعدم فعل أي أفعال عدوانية أو أعمال عنف أو التهديد بها من داخل أراضيه أو بواسطة قوات خاضعة لسيطرته أو مرابطة علي أرضه ضد السكان أو المواطنين أو الممتلكات الخاصة بالطرف الآخر..
ووفق هذا النص تكون إسرائيل قد انتهكت اتفاقية السلام فعلا، وهي تواصل هذا الانتهاك ولن تتوقف عنه طالما أن المسؤولين المصريين يتعمدون التعتيم علي هذه العمليات.. والرصاص الإسرائيلي لا يصيب المواطنين فقط في رفح، ولكنه يصيب جدران المساجد والبيوت أيضا.
وأسأل الذين يزعمون أن هذا العدوان الإسرائيلي مجرد استفزاز، ماذا تفعل إسرائيل لو أن رصاصة مصرية طائشة خرجت علي سبيل الخطأ من جندي مصري صوب إسرائيل حتي ولو لم تقتل أحداً وغاصت في الرمال؟! هل ستصمت، أم أنها ستقلب الدنيا رأساً علي عقب وتصرخ بأعلي صوت طالبة تدخل العالم كله لأن مصر اخترقت معاهدة السلام؟
والمدعون بأن قتل طفلة مصرية داخل حدود بلدها برصاص إسرائيلي مجرد استفزاز، متخاذلون ولاشك.. لأنهم يعلمون علم اليقين أن الرصاص الإسرائيلي لايصوّب نحو مصر مصادفة أو علي سبيل الخطأ.. فأبراج المراقبة الإسرائيلية علي طول الحدود تعمل علي مراقبة هذه الحدود.. ومن الطبيعي أن ترصد محاولات عبور السور أو السلك الحدودي، وتتعامل معها ولكن وفق قواعد.. فمدي رمي الرصاص الإسرائيلي يبدأ من بعد الخط الحدودي وداخل الأراضي الإسرائيلية،
ولا يحق لأي جندي إسرائيلي أن يطلق الرصاص علي أي شخص داخل الحدود المصرية لأي سبب ومهما كان الفعل الذي يراه داخل أرض مصر، فهذا من اختصاص المصريين وحدهم.. فإذا حدث الاختراق للحدود يبدأ الجندي الإسرائيلي في التعامل.. أما التصويب داخل الأراضي المصرية وعلي عمق يزيد علي 300 متر بداخلها، فلا يمكن أن يكون إلا عمدا.
وبين الدول التي لايسود الود في علاقاتها، وبينها تاريخ من الصراع والحروب تكون هناك حالة من اليقظة الدائمة علي الحدود، وتتم بعض الأفعال من وقت لآخر من باب اختبار وقياس زمن الطرف الآخر في رد الفعل ونوعية هذا الرد.. وهي عملية تحدث دائما، والتراخي في رد الفعل يعني ضعفا من الخصم.. والقاعدة المعروفة أن الضعف يغري بالعدوان.. وطالما أننا أظهرنا كرما نادرا أمام إسرائيل في التعامل مع أرواح ودماء المصريين، فمن الطبيعي أن تتزايد هذه العمليات في المستقبل.
ولا يغيب عن الأذهان تلك الفتاوي المتطرفة التي صدرت من رجال دين يهود تبيح للجنود الإسرائيليين قتل الأطفال.. وهذه الفتاوي كانت السبب في أن 20% تقريبا من شهداء الانتفاضة الفلسطينية كانوا من الأطفال.. ولا يغيب أيضا أن قياسات الرأي العام داخل إسرائيل أظهرت أن 55% من الجنود الإسرائيليين لا يمانعون في استهداف الأطفال.. ولا فرق هنا بين طفل فلسطيني أو طفل مصري أو أي طفل عربي.. وإذا كانت هذه الحالة جائزة من وجهة نظر الإسرائيليين في حالة الخطر،
فمن المؤكد أن الطفلة سماح التي كانت تلهو علي بعد نصف كيلو متر من خط الحدود داخل دولة أخري لم تكن تخطط لعمل يشكل خطورة علي الجنود الإسرائيليين.. وينبغي هنا الإشارة للطفلة الفلسطينية إيمان الهمص التي استشهدت جنوب قطاع غزة عام 2004 أثناء توجهها لمدرستها حاملة حقيبتها المدرسية،
وتبين أن 3 من الجنود الإسرائيليين كانوا قد تراهنوا علي إصابتها من بعد، فأفرغوا في رقبتها وصدرها وبطنها 20 رصاصة.. ولاأتصور أن ماحدث للطفلة المصرية سماح والظروف المحيطة بالحادث كانت بعيدة عن ذلك.. مجرد جندي إسرائيلي يلهو.
ولا يطلب منا أحد أن تشن مصر حربا علي إسرائيل.. ولكن الأدوات الدبلوماسية كثيرة وقوية لو توفرت الإرادة للتحرك.. فمن حق مصر أن تستدعي السفير الإسرائيلي وتبلغه احتجاجا شديد اللهجة كما فعلنا مع كل سفراء أوروبا بسبب تقرير البرلمان الأوروبي الأخير.. وتستطيع مصر أن تطلب تحقيقا دوليا في واقعة الطفلة سماح والوقائع التي سبقتها..
وتستطيع مصر أن تطلب تعويضا عن الخسائر في الممتلكات والأرواح المصرية التي سببها الرصاص الإسرائيلي لنا وقت السلم.. ولكن عدم توفر الإرادة السياسية الحقيقية، والبحث عن الراحة، والرغبة في البعد عن المتاعب تشكل مانعا دائما دون أي تحرك يعيد لنا هيبتنا واحترامنا.
لكي تكون دماؤنا وأرواحنا غالية، يجب أن نكون أقوياء.. وقد حققنا نصرا غاليا علي إسرائيل في 1973، ووقعنا معها معاهدة سلام، وكنا نحن الطرف المنتصر.. والسلام الذي نريد الحفاظ عليه لابد له من قوة تحميه.. والقوة تكمن في القدرة علي اتخاذ القرار السياسي في المقام الأول، قبل أن تكون قوة عسكرية.